الأحد، 16 أغسطس 2015

مقدمة

فكرت كثيراً في كتابة كتاب لأسطر فيه تجربتي في اليابان، فأول مرة كانت بعد وصولي لليابان بسنوات قليلة وتحديداً في عام 2006 وقد حال وقتها بيني وبين الكتابة إنشغالي بالدراسة. والمرة الثانية كانت عام 2009 وعندما شاهدت برنامج الإعلامي المتميز أحمد الشقيري قلت في نفسي أنه قدم للمشاهد العربي برنامجاً يغني عن ما كنت أنوي تقديمه له في صورة كتاب. وفي عام 2013  قمت بكتابة أولي صفحات هذا الكتاب، ولضيق الوقت آنذاك وإنشغالي بإجراء الأبحاث أثناء عملي في جامعة ناجويا لم أجد الوقت الكافي للكتابة. هناك سبب آخر وهو أنني كنت ما زلت في اليابان وكنت في كل يوم أتعلم الجديد عن الشعب الياباني وثقافته وحياته، فكنت أري أن الأفضل أن أقوم بكتابة كتاب يلخص رحلتي لليابان بعد إنتهائها.  وفي هذا العام عادت لي الفكرة بقوة خاصة بعد تشجيع بعض الزملاء وأيضاً رايت أن بعض البرامج تركز أكثر علي الإيجابيات في المجتمع الياباني ولا تلقي الضوء علي السلبيات ولا تتعرض للأسباب التي جعلت من اليابان دولة قوية يُضرب بها المثل في الرقي والتقدم. لذلك سوف أحاول جاهداً في هذا الكتاب أن ألقي الضوء علي المجتمع الياباني بكل جوانبه، الإيجابية منها والسلبية. وأتمني من داخل أعماقي أن يكون لهذا الكتاب تأثير إيجابي علي الشباب العربي وأن يكون دافعاً له لمحاولة التعلم من إيجابيات هذا الشعب العظيم الذي يقف العالم له تعظيماً في كل المحافل الدولية والذي يلاقي مواطنوه معاملة حسنة مصحوبة بالإحترام أينما وُجدوا في أي دولة من دول العالم. وسوف أستعرض بإختصار تاريخ اليابان القديم والحديث لكي نربط بين تجربتهم السابقة ووضعهم الحالي وسوف أحاول تسليط الضوء علي أهم الأسباب التي جعلتهم في مصاف الدول المتقدمة. سيجد القارئ أن هناك الكثير من المواقف قد عشتها بنفسي كما أن هناك بعض المواقف قد نقلتها من بعض الأصدقاء، وأيضا سأحاول التجول في أفضل الكتب التي تعرضت للتجربة اليابانية ليكون الكتاب مرجعاً لكل من يريد معرفة سر تقدم هذا الشعب والأسباب التي أدت إلي رُقيه وتقدمه بشكل جعل من تجربته مثلاً يحتذي وصارت كل الدول التي تتطلع للنهوض،تحاول إستنساخ تجربته الرائدة.

بدأت حكايتي مع اليابان وحلمي بالسفر إليها في صيف عام 1999 عندما كنت أعمل في مصنع لإنتاج الحديد يقع علي ترعة الإسماعيلية بالقرب من مصنع الدلتا للصلب. أثناء العمل جلست بجانب مهندس محمدي ، مهندس التحكم في المصنع وقال لي حدثني عن طموحك وأحلامك في المستقبل. جاوبت بدون تفكير أتمني أن أسافر اليابان أعمل بها لفترة وأتعلم بعض التقنيات الحديثة في مجال عملي ثم أعود وأقوم بتأسيس مصنع يقوم بإنتاج قطع غيار للسيارات والمعدات بجودة تماثل جودة المنتجات اليابانية. ضحك المهندس محمدي وقال: اليابان مرة واحدة ! لماذا اليابان ؟ قلت له لأنهم دوماً يضربوا بها المثل في الإتقان والإخلاص ويتسابق الجميع علي إقتناء منتجاتهم نظراً للجودة التي تتمتع بها. بعد عدة شهور قرأت إعلان في إحدي الصحف عن توفر فرصة عمل في معهد التبين للدراسات المعدنية، وبالفعل قمت بالتقديم في الإعلان واجتزت المقابلة بنجاح وبدأت العمل في المعهد. بعد عدة شهور قام المعهد بترشيحي لمنحة وزارة الصناعة المقدمة من وكالة اليابان للتعاون الدولي "جايكا" في مجال التقنيات الحديثة لتشغيل المعادن. كانت المنافسة صعبة جداًأ لأنه كان مطلوب شخص واحد علي مستوي مصر يتم ترشيحه من المراكز البحثية التابعة لوزارة الصناعة ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي وبعض الجامعات. بعد عدة شهور جائني خبر قبولي بالمنحة، وبدأت في إعداد أوراقي للسفر. قبل السفر بفترة قليلة أعلنت جامعة الأزهر التي تخرجت منها عن حاجتها إلي تعيين معيدين، فقمت بتقديم أوراقي وكنت أعرف أن نسبة الحصول علي الوظيفة كبيرة. سافرت في شهر سبتمبر ووصلت لمقر الجايكا في  مركز شوبو الدولي في مدينة ناجويا. كانت فترة من أفضل فترات حياتي، فقد كانت الإقامة مريحة جداً وشاملة الأكل. ومن سافر إلي بلد غير مسلم يعرف صعوبة الحصول علي الأكل الحلال الخالي من إضافات محرمة كالكحول أو لحم الخنزير. كان الجدول مزدحماً جداً بين محاضرات في التخصص وزيارات ميدانية للمصانع والشركات يصاحبها تدريب عملي أحياناً. وفي المساء كنت أحضر دروس اللغة التي يقوم عليها متخصصين في تعليم اللغة اليابانية للأجانب. كان كل شيئ يبدوا جيداً ومنظم إلي حد كبير، يكفي أن تعلم أن جدول التدريب علي مدار 6 شهور والذي تسلمناه في بداية التدريب لم يتغير منه شيئ إلا في أضيق الحدود كأن يتم تغيير رقم  الغرفة  الخاصة بالمحاضرة مثلاً. كان يصاحبنا دوماً منسق ياباني يعمل علي تذليل كل العقبات وحل كل المشاكل التي تواجهنا في الإقامة في اليابان. بالإضافة إلي ذلك كان يقوم بالترجمة الفورية في المحاضرات أو عند زيارة المصانع والشركات أو حتي عند الذهاب إلي رحلة ترفيهية. كانت المجموعة التي أتدرب معها تضم 8 مهندسين من جنسيات مختلفة: مارلون من البرازيل وإريكو من الفلبين وجاجا من سيريلانكا وجيفري وأنور من ماليزيا وكيرمان من إندونيسيا وجليجورتشي من مقدونيا. كانت علاقتنا جيدة جداً ببعض ونظراً لإختلاف التخصصات العلمية والخبرات وأيضاً الثقافات، فكنا نتعلم من بعض الكثير وكانت علاقاتنا تزداد مع مرور الوقت. وفي أحد الأيام جاء للمركز أستاذ من جامعة ناجويا وكانت محاضرته شيقة جداً، بعد إنتهاء المحاضرة سألته عن كيفية الحصول علي منحة لتكملة دراستي في اليابان. أخبرني أنه الان علي المعاش ولكنه طلب مني أن أرسل له السيرة الذاتية وسيقوم بإرسالها لبعض الأساتذة العاملين في الجامعة. أرسلتها له علي الفور وبعد أسبوع جائتني رسالة علي البريد الإلكتروني من أحد الاساتذة في جامعة ناجويا يدعوني لزيارة معمله في الجامعة. إتصلت بصديق مصري كان يدرس الدكتوراة في جامعة ناجويا ليساعدني في الوصول إلي معمل الأستاذ الياباني. قبل الزيارة، قمت بتصفح الموقع الإلكتروني للمعمل وأخذت فكرة جيدة عن الأبحاث التي يقوموا بإجرائها في المعمل. وصلنا للمعمل ثم انصرف زميلي وأخبرني أنه سيأتي بعد إنتهاء المقابلة. كان لقاءاً جيداً، أظهرت له رغبتي في الدراسة تحت إشرافه وأثناء النقاش أبدي إقتناعه بي وأخبرني أنه سيرسل لي رسالة لاحقاً علي البريد الإلكتروني. غادرت مكتبه وفي اليوم التالي قمت بإرسال رسالة إلي عدة اساتذة يابانيين أبدي لهم رغبتي في الدراسة وأرفقت مع الرسالة ملف يحتوي علي السيرة الذاتية، ولكن للأسف معظم الردود التي جائتني كانت سلبية فقد كانت عبارة عن إعتذار بشكل مهذب. في هذه الفترة جائني خبر من مصر أن الجامعة قد وافقت علي تعييني وأن هناك وقت معين لو لم أستلم قبله العمل فسيتم إلغاء ترشيحي للوظيفة وسيتم ترشيح شخص آخر من المتقدمين. حاولت أن أتأخر قدر الإمكان للحصول علي أكبر قدر من التدريب ولكن في نفس الوقت أتابع مع بعض الأصدقاء الموجودين في مصر الموقف في الجامعة. مع إقتراب الموعد الذي حددوه لترشيح غيري للوظيفة، تحدثت مع المسئولين هناك وأخبرتهم بالموقف ووافقوا علي إنهاء الدورة بالنسبة لي قبل موعدها بعدة اسابيع وأقاموا حفلاً خاصاً بي حضره كل زملاء ورئيس المركز والمنسق. عدت إلي مصر وشرحت الموقف في معهد التبين علماً بأني كنت قد أعطيتهم فكرة عن الفرصة في الجامعة قبل السفر، رحبوا جميعاً بالإنتقال لعلمهم بأن هذا أفضل بالنسبة لي. في اليوم التالي إستلمت العمل بالجامعة وبعد فترة وجيزة جائتني رسالة من الأستاذ الياباني يخبرني بأن لديه منحة تغطي مصاريف الدراسة فقط ولكن يتوجب علي العمل لتوفير مصاريف السكن والمصاريف الشخصية. شكرته علي العرض وأخبرته أنني لن أغادر مصر إلا في ظل وجود منحة جيدة تضمن لي حياة كريمة وتفرغ كامل للدراسة. بعد أقل من عام أرسل لي أوراق منحة المونبوشو وهي المنحة الأشهر في اليابان المقدمة من وزارة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتقنية للطلاب الأجانب لتكملة دراساتهم العليا. جهزت الأوراق كلها وأرسلتها له وأخبرني أن الفرصة ضعيفة جداً نظراً لصعوبة المنافسة، حيث أن المنحة يقدم عليها طلاب من كل دول العالم. في شهر يوليو عام 2003 ويوم عقد قراني، جائتني رسالة من الأستاذ الياباني تعلمني بقبولي  وحصولي علي منحة طالب باحث لمدة عام ونصف، أثناء هذه الفترة يتوجب علي دراسة اللغة والنجاح في إمتحانات القبول لتسجيل درجة الماجستير. في نهاية شهر سبتمبر سافرت لليابان لتبدأ مرحلة جديدة من عمري لم أكن أدري أنها ستستمر لفترة تقارب الثلاثة عشر عام. كنت أقضي وقت طويل في دراسة اللغة نظراً لتسجيلي في الدورة المكثفة التي تبدأ في الثامنة صباحاً وتمتد حتي الثانية بعد الظهر. بعد ذلك أذهب للمعمل لأقوم بحل الواجبات وأقرأ في مجال التخصص وأيضاً أستعد لإمتحانات القبول. أخبرني الاستاذ أن إمتحانات الماجستير صعبة جداً نظراً لإقبال الطلاب اليابانيين علي تسجيل الماجستير وأنها ستكون في الكيمياء والفيزياء والرياضة واللغة الإنجليزية واليابانية والمواد التخصصية. واصلت دراسة اللغة وبدأت في الإنتقال من مستوي إلي آخر حتي صرت أتحدث اليابانية بشكل يجعلني أتواصل مع كل زملائي اليابانيين وأمارس حياتي بشكل طبيعي في اليابان. نعم كانت هناك صعوبات في القراءة والكتابة ولكن كنت أتغلب عليها بإستخدام بعض برامج الترجمة.

لم يكن للطلاب المسلمين أنشطة تذكر داخل الحرم الجامعي ولم يكن هناك مكان لصلاة الجمعة غير المسجد الموجود بالقرب من وسط المدينة ولم يكن هناك وجبات حلال في مطاعم الجامعة. هذه كانت أهم العقبات التي كانت تواجه الطلاب المسلمين أثناء الدراسة في الجامعة . قام مجموعة من الزملاء بالتعاون مع الجامعة بإنشاء مجموعة طلابية تهتم بالطلاب وتعمل علي حل مشاكلهم وكانت تسمي جمعية الثقافة الإسلامية بجامعة ناجويا. نجحوا في توفير مكان لصلاة الجمعة وأيضاً تحدثوا مع المطعم لتوفير وجبات حلال للطلاب المسلمين وقاموا بالفعل بعمل ذلك وكانوا يقوموا بتنظيم بعض الأنشطة الثقافية تهدف إلي تعريف المجتمع الياباني بالثقافة الإسلامية. وفي كل عام كان يزور الجامعة أحد علماء الدين الإسلامي اليابانيين لإعطاء محاضرة عن الثقافة الإسلامية وعلاقة المجتمعات الإسلامية باليابان. بعد النجاح في إمتحانات القبول بدأت في دراسة الماجستير وفي عام 2007 حصلت علي الماجستير في علوم وهندسة المواد ثم سجلت للحصول علي درجة الدكتوراة وفي عام 2010 حصلت علي درجة الدكتوراة. بعد التخرج عرض علي أحد الأساتذة اليابانيين أن أعمل باحث في معمله لمدة عام. وافقت وبدأت بالفعل وفي نفس الوقت قمت بالتقدم للحصول علي مشروع في المعمل الذي كنت أدرس فيه. بعدة عدة شهور أرسلت إلي جامعة الأزهر بخطاب يفيد بضرورة عودتي لمصر بعد الحصول علي الدكتوراة. إعتذرت عن التكملة وعدت لمصر في آخر عام 2010. في بداية عام 2011 قامت ثورة يناير ومرت مصر بظروف صعبة جداً، وكنت آنذاك أسافر من مدينة طنطا لمدينة القاهرة كثيراً في ظل تدهور الحالة الأمنية بالبلاد. وأيضاً كان الجو العام داخل الجامعة واخل معظم مؤسسات الدولة يسود فيه الفوضي. في ظل هذه الظروف جائتني رسالة من أستاذي في اليابان تفيد بأن المشروع الذي تقدمت به عقب حصولي علي الدكتوراة تم قبوله وسأحصل علي دعم كبير لأبحاثي لمدة 5 سنوات. حدث زلزال مدمر في اليابان في مارس 2011، وصرت حائراً بين الفوضي في مصر وخطورة الوضع في اليابان، خاصة بعد ورود أنباء بوجود تسرب إشعاعي من محطة فوكوشيما اليابانية. تقدمت بطلب للسفر وخلال شهرين وافقت الجامعة علي السفر وكانت الأمور هناك بدأت في التحسن. وصلت لليابان وبدأت العمل في الجامعة التي تخرجت منها. كنت اذهب للعمل في التاسعة صباحاً وأظل أحياناً إلي التاسعة مساءاً، فالوضع في الجامعة لا يجعلك تمل من العمل. فالجامعة بها المقاهي والمطاعم والصالات الرياضية والملاعب وكل أدوات الترفيه. كانت أبحاثي تخدم بعض شركات السيارات كشركة تويوتا وشركة ميتسوبيشي، لذك من وقت لآخر كنت أقوم بالذهاب إلي هذه الشركات لعرض بعض النتائج. وكان لدينا معمل خارج الجامعة خصصته لنا المحافظة عقب حصولنا علي الدعم المادي في المشروع. كنت أتنقل بين معملي في الجامعة وهذا المعمل الموجود بين مدينة ناجويا ومدينة تويوتا. كان هذا المبني يتوسط الجبال الخضراء وكنت أذهب إليه بالمونوريل أو بالسيارة وكنت أجد متعة في اليوم الذي اذهب فيه إليه.  ونظراً لحصولي علي تمويل من عدة جهات فقد كانت هناك ميزانية كبيرة لسفر المؤتمرات الدولية. لذلك فقد سافرت إلي العديد من الدول كالولايات المتحدة الأمريكية وكندا وكوريا الجنوبية والصين والنمسا وغيرها من الدول. في نهاية الخمس سنوات وتحديداً في مايو 2016 عرض علي الأستاذ أن أكمل أو يرشح لي بعض الشركات لأعمل بمركز الأبحاث الخاص بها ولكني فضلت الرجوع إلي مصر بعد تفكير عميق في كل الجوانب.

في عام 2021 سافرت الي اليابان في مهمة علمية لمدة 6 شهور   


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق